قراءة اغترابية: هل قيادة المثقّفين شرطٌ لحشد الدعم لانتفاضة 17 تشرين؟!

قيل أن بضعة دولارات فُرِضت شهريا على خدمة الواتسآب أشعلت انتفاضة 17 تشرين. تبيّن لاحقا بأنها كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير.

الأزمات المعيشية والإجتماعية المتناسلة والمتراكمة كانت وراء ذلك. اشتداد الأزمات وانهيار سعر صرف الليرة واحتجاز أموال المودعين وارتفاع نسب البطالة وفراغ الخزينة وعجز المنظومة الحاكمة بسبب من ذلك عن الإستمرار في تأمين الخدمات الزبائنية لأتباعها، كلها عوامل كشفت خداع تلك المنظومة وكشفت لعامة الناس أن ” حقوق الطائفة” “لا تسمن ولا تغني عن جوع” فانطلقت مظاهرات 17 تشرين مخترقة أسوار الطوائف والمناطق، مطالبة بلبنان الواحد والعدالة الإجتماعية ودولة المواطنين/ات بدلا من دولة تقاسمتها الطوائف.

إذا تجاوزنا الهبّة العفوية التي تمثلت بالمظاهرات والتحركات التي حصلت على ساحتنا الاغترابية، كدعم وتأييد لانتفاضة 17 تشرين، فالسؤال الذي يجب طرحه من أجل مأسسة العمل لدعم الانتفاضة هو التالي: إذا كانت العوامل المذكورة أعلاه هي التي فجرت انتفاضة 17 تشرين في لبنان، فما الذي يدفع المغترب إلى تأييد تلك الانتفاضة وهو بعيد نسبياً عن مفاعيل تلك العوامل؟ وما هي الشروط الواجب توفرها كي يأخذ ذلك التأييد طريقه العملي؟

لا شك أن شعور التعاطف الأهلي والوطني والإنساني يدفع المغترب لمساعدة المقيم بصرف النظر عن الإنتماءات السياسية، لكن حتى تطال المساعدة الجانب السياسي عبر العمل للخلاص من تلك المنظومة متجسدا في دعم الانتفاضة وتأييدها فأمر يتطلب حصول القناعة لدى ذلك المغترب بمسؤولية تلك المنظومة عما حصل في لبنان ويتطلب أيضا من الانتفاضة أن تبلور نفسها كجبهة سياسية قادرة على تقديم بدائل فكرية سياسية اقتصادية مدعومة شعبيا وهذه مسائل قد لا تتأمن القناعة بها بشكل عفوي ومباشر أقصد دون تدخل المثقّفين .

بالإضافة الى الرغبة في مساعدة المقيمين، ألم يتضرر المغترب مباشرة من جراء سلوك تلك المنظومة الفاسد والمتماد في الفساد؟ وبصيغة أخرى ما هي مصالح المغتربين في تأييد الإنتفاضة؟ الإنتفاضة بما هي العمل للإطاحة بالمنظومة الفاسدة التي حكمت ونهبت البلد في العقود الأخيرة، الإنتفاضة بما هي السعي لإقامة دولة ديمقراطية مدنية عادلة في لبنان.

لنبدأ من البداية، من الهجرة والأصح من التهجير.

كل مغترب هو ضحية من ضحايا تلك المنظومة. العامل الذي لم يجد عملا لأن الأعمال والوظائف كانت محجوزة لزبائن تلك المنظومة من غير وجه حق وخلافا للقانون، هاجر. الطالب الذي لم يجد جامعة ينتسب إليها، هاجر. المستثمر الذي عيل صبره من دفع الخوات،هاجر. من هُدّد في أمنه من قبل تلك المنظومة لأنه حاول مقاومتها في تحويل الدولة إلى ما يشبه مجموعة شركات خاصة، هاجر. المغترب الذي استهلك إجازته في الركض بين الإدارات لتخليص بعض المعاملات العقارية، عاد خائبا لأنه لم يدفع الرشوة. ومن دفع اكتشف أن ثمن العقار الذي حصل عليه لا يزيد ثمنه كثيرا عن الرشوة التي دفعها، فعاد خائبا أيضا. كل من فقد قريبا أو عزيزا في الحروب العبثية لتلك المنظومة منذ افتتاحها في نيسان 1975، كل ما زال مصير قريب أو عزيز له مجهولا، كل من دُمّر بيتُه أو رزقُه، كل من أودع قرشا مغمسا بعرق الجبين في مصارفهم وحجب عنه الآن، كل من منّن نفسه وقد بلغ أو شارف سن التقاعد أن يقضي بقية أيامه في ربوع الوطن الذي حرم منه في شبابه، كل هؤلاء متضررون من تلك المنظومة وحكمها المديد، كل هؤلاء تكمن مصلحتهم بالخلاص من تلك المنظومة عبر نصرة الإنتفاضة لكن مسألة إدراك مسؤولية المنظومة عن ذلك قد لا تكون مسالة عفوية او اوتوماتكية لأن تلك المنظومة كانت قد مارست التضليل الى جانب الفساد عبر تصوير الهجرة طموحا والحروب دفاعا عن الوجود والفساد تذاكيا وشطارة وان كل مصائبنا اتت إلينا من الخارج، هنا أيضا يُفتقدُ دور المثقّف.

هذا عن المغترب الذي كان على تماس مباشر مع لبنان، فماذا عن المغترب الذي قد لا يكون تعرض مباشرة لشيء مما ذكرنا أعلاه؟ ذلك المغترب ربما كان من الجيل الثاني أو الثالث، ما هي علاقته بالإنتفاضة؟

هذا المغترب لا يعيش في فراغ وإن كان يعيش بعيدا عن لبنان. فلقد ملأت أخبار لبنان – التي لا ترفع الرأس مع الأسف – الإذاعات والشاشات، ووضعت هذا المغترب في مواجهة مع ذاته ومع الآخرين. فإما أن يتنكر لأصله، وهذا أمر يستطيع فعله تجاه الآخرين إلا أنه لا يستطيع أن يفعله تجاه نفسه، مع ما يصاحب ذلك من تمزق وألم، وإما أن يواجه الأمر كما هو بالفعل محمِّلا المنظومة الحاكمة مسؤولية الأوضاع المزرية التي وصل إليها البلد، متجها صوب الإنتفاضة كخشبة خلاص ينقذ من خلالها شعبه وكرامته.

هنا أيضا تكمن أهمية دور المثقف في دفع ذلك المغترب الى التساؤل والمقارنة :

لماذا الدولة هنا علمانية وهناك تتقاسمها الطوائف ورؤساء الطوائف ورؤساء الأحزاب الطائفية؟

لماذا القضاء هنا مستقل وهناك تابع؟

لماذا القانون هنا فوق الجميع وهناك صوت مسلط فقط فوق رؤوس الغلابة؟

لماذا يخضع السياسي للمساءلة السياسية هنا وهو فوق المحاسبة هناك؟

لماذا شبكات الخدمات الإجتماعية والصحية فاعلة هنا ولا أثر لها هناك؟

لماذا التوظيفات في القطاع العام تخضع لآليات واضحة دقيقة هنا تُعرّض من يتجاوزها للمساءلة، وتخضع هناك لأهواء المتزعمين؟

لماذا المعاملة الإدارية تنجز عبر الهاتف والإيمايل هنا، وهناك عليك أن تدق مئة باب؟

لماذا بعدما كنا نرفع رأسنا على أننا سويسرا الشرق صرنا نخفي رأسنا لأننا أصبحنا مزبلة الشرق ؟ وعذرا على التعبير.

لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ ( يتبع)

طنّوس فرنسيس

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *